العظة الثانية : " قهر الرجال "
أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في دعائه ( اللهم إني أعوذ بك من الهم والغم وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من ضلع الدين وغلبة الرجال)
وأخرج أبو داوود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد يوماً ورأى رجل من الأنصار يقال له أبو أمامه فقال له – أي النبي صلى الله عليه وسلم – قال لأبي أمامه : ( مالي أراك جالس في المسجد في غير وقت صلاة ) فقال : يا رسول الله همٌ نزل بي وديون لزمتني ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( ألا أعلمك كلمات إن قلتها أذهب الله همّك ) قال قلت : بلى يا رسول الله قال : ( قل إذا أصبحت وإذا أمسيت ( اللهم إني أعوذ بك من الهّم والغم ومن العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال (
من الحديثين يظهر أنه صلى الله عليه وسلم تعوذ وأمر بالتعوذ من قهر الرجال .
فما قهر الرجال ؟
قهر الرجال في قول كثير من العلماء : ما يصيب الإنسان من قهر وهم وغم بغلبة انتصر عليه بها وهو يعلم أنه على الحق وخصمه على الباطل .
وأردت بهذه العظة أن أذكر إخواني أن الحياة الدنيا ميدان تنافس فربما غلبت المطامع الدنيوية على العبد فكان سبباً في قهر أخوانه حتى يصل إلى مبتغاه وأمله فيجعل الطريق إلى مبتغاه وأمله أن يمضي على أكتاف الناس وهذا خلاف اليقين بالله جل وعلا والإيمان بقضائه وقدره وفيه ما فيه من معارضه قول النبي صلى الله عليه وسلم .
وكنت كلما قرأت أو سمعت هذين الحديثين تذكرت إمام النحاة سيبويه رحمه الله تعالى .
سيبويه عليه من الله الرحمة والغفران فارسي الأصل نشأ في البصرة وكان أول حياته يطلب الحديث فجلس إلى شيخ يقال له حماد بن سند وأخذ يقرأ فمر على حديث بصرف النظر عن سند صحته فقال سيبويه وهو يقرأ : " أنه ليس من أصحابي أحد إلا ولو شئت لرددت عليه ليس أبو الدرداء " فأجرى سيبويه وهو يومئذ يطلب الحديث أجرى ما بعد ليس على عمل ليس الأصلي وهو رفع ما بعدها فقال له شيخه : أخطأت يا سيبويه أنما هو استثناء كان ينبغي أن تقول : " ليس أبا الدرداء" . فأطبق الكتاب وقال : " لأطلبن علماً لا ينحلني معه أحد " .
فلزم شيوخ البادية وعكف عند الخليل ابن أحمد الفرهيدي يطلب منه العلم وأخذ عن غيره من الأقران كيونس وعيسى بن عمر وغيرهما من أئمة نحاة البصرة آنذاك حتى علا شأنه وهو صغير و تفوق على كثير من طلاب العلم حتى أصبح وهو في العقد الثالث من عمره إمام البصرة لا ينازعه في إمامة النحو أحد وقبل أن يصل إلى مأساته في تلك الفترة ألف كتابه [ الكتاب ] ولم يخرجه للناس رغم أن كتابه المسمى الموصوف بالكتاب في النحو ألفه سيبويه في أوائل القرن الثاني تقريباً وإلى اليوم لم يألف أحد في النحو كتاباً أكمل ولا أعظم من كتاب سيبويه رغم عشرات القرون مما يبين بجلاء أن للرجل قدم سبق واضحة وعلو كعب في علم النحو وسيأتي الحديث عن الكتاب بعد ذلك.
ثم لما سمع بغداد وكانت يومئذ عاصمة الخلافة وكان أقرانه من الكوفيين كالكسائي وغيره يذهبون إلى بغداد فينالون حظوة الأمراء وأعطياتهم وشرف المنازل أراد أن يسعى في مرحلة جديدة من حياته، فانتقل من البصرة إلى بغداد ونزل عند يحي بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد ثم أراد أن يخوض مرحلة جديدة من حياته فلما دخل على يحي أقام يحي مناظرة بينه وبين الكسائي زعيم نحاة الكوفة وكانت اللعبة السياسة آنذاك بين البصرة والكوفة في أوجها لأن البصرة كانت في السابق حليفة لبني أمية فلما تغير الأمر السياسي أضحت قلوب بني العباس مع أهل الكوفة أكثر منها مع أهل البصرة ، أقيمت المناظرة وكانت في حال الاسم الواقع بعد إذا الفجائية فكان سيبويه يرى أن الرفع حال واحدة لا تقبل الوجهين وكان الكسائي يرى جواز الوجهين الرفع مع النصب فقال لهما يحي : " اختلفتما و أنتما رئيسا بلديكما فمن يحكم بينكما " فقال الكسائي : " هذه جموع الأعراب ببابك قادمة من كل صقع فجعلها تحكم بيننا " – و كانت الأعراب يومئذ لم تخالطها العجمى - يحكمون بين النحاة لأنهم على السليقة وكان الكسائي صاحب حظوة عند هارون الرشيد فأراد الأعراب أن يماروا ويجاملوا الكسائي على سيبويه رغبة في أن الكسائي له منزلة عند الخليفة أعظم رغبة في المال والجاه والأعطيات فلما قال الكسائي ما عنده وقال سيبويه ما عنده وسيبويه يعلم يقيناً أنه على الحق قالت الأعراب ممن حضروا واحتكموا إليهم : " إن الحق مع الكسائي " فلما قيلت هذه الكلمة أنقبض خاطره وكُسر ظهره وما جاء من أجله ، فزاده الكسائي نكالاً أن قال ليحي : " أيها الأمير أصلحك الله إن الرجل قدم يرجوا أعطياتك فهلا جبرته " . فأعطى يحي سيبويه بعض من المال يريد أن يجبر به كسره فخرج رحمه الله من عنده وقد أصابه من الغم والهم وقهر الرجال ما أصابه يتوارى من الناس من سواء ما لحق به حتى أنه لم يستطع أن يدخل البصرة بعدئذ رغم أنه رحمه الله كان إذا خرج لصلاة الفجر وهو في الثانية والثلاثين من عمره إذا خرج لصلاة الفجر سحراً يجد طلاب العلم يزدحمون على بابه يسألونه وهو يجيب كأنه يغرف من بحر فذهب هذا المجد كله وهو قد جاء ليؤمن مجداً جديداً وعملاً خالداً فذهب إلى قرية من قرى فارس ومر في طريقه على تلميذه الأخفش فبثه شكوه وقال له بنجواه وأخبره بالقصة ولم يستطع بدنه أن يتحمل ما أصابه من قهر وهم المرض ولم يلبث شيئاً يسيراً حتى توفي وعندما أحتضر وشعر بدنو الأجل تذكر بيتين من الشعر تناسب حاله وكونه قد ذهب يريد أمراً فرجع بأخر فقال رحمه الله :
يأمل الدنيا لتـبـقــى له *** فوافى المنية دون الأمل
حثيثاً يُروي أصول النخيل *** فعاش النخيل ومات الرجل
ثم أسلم نفسه وفاضت روحه إلى باريها رحمه الله ..
هذا الرجل الذي مات بهذا القهر ترك للناس كما قلت كتابه [ الكتاب ] وهذا الكتاب لا يعرف بعد كتاب لله جل وعلا كتاب شرحه العلماء أو حاموا حوله أو طافوا ببابه ككتاب سيبويه وترجم بعصرنا هذا إلى أكثر لغات العالم . وجامعة هارفرد الأمريكية وهي أرقى جامعات العالم أكاديمياً تحتفظ بنسخ منه وتضع شهادات أكاديمية وترقيات علمية فيمن يستطيع أن يبحث في كتاب سيبويه بل أن نحوي أمريكياً شهيراً أسمه تشومسكي ظهر في هذا العصر كتب في أول حياته في السياسة ثم تفرغ للنحو وأخرج للجامعات العالم ما يسمى عالمياً [ بالنحو التحويلي ] ونظرية تشومسكي في النحو التحويلي سارت بها الركبان في هذا العصر وهو حي يرزق الآن في جامعات العالم ما قاله تشومسكي في النحو التحويلي وُجد له أصل في كتاب سيبويه فقد لفت إليه سيبويه من قبل ألف سنة كما بينا .
كما أنه رحمه الله تعالى ذكر لنا طريقة جميلة في التأدب مع المشائخ و العلماء فقد كان شيخه الأول الخليل بن أحمد فكان حتى يميز الخليل شيخه الأكبر والأول عن غيره يقول رحمه الله في الكتاب: " زعم عيسى بن عمر وحدثني أبو الخطاب وأخبرني يونس "فيذكر أسماء المشائخ فإذا قال : "حدثني " ويذكر الخبر دون أن يقول الفاعل فإنما يقصد في المقال الأول شيخه الخليل بن أحمد فتأدب معه يرى أن شيخه هذا أجل من أن يذكر وأكبر من أن يسطر أسمه إلا في بعض مواطن في الكتاب لا تخفى لمن أطلع عليه .
ثم أنه ضرب مثلاً في قوة النفوذ العلمي للكتاب : الكتاب الحق الذي تألفه إذا خرج للناس مادته العلمية تقنع الناس لا ما فيه من تقرير العلماء وأفكار الفضلاء فإن الله جل وعلا لما أنزل كتابه قال في أول صفحاته بعد الفاتحة (( آلم * ذلك الكتاب )) أي دونكم الكتاب فاقرءوه والله جل وعلا يعلم أنه خالق ولا يقاس به أحد من خلقه لكن هذا منهج لأن الإنسان إذا أراد أن يؤلف يعنى بمادة الكتاب ولا يعنى بتقديم غيره له حتى يكون الكتاب أوقع في النفوس وأملأ لليد ويحتف به الناس فسيبويه لم يجعل لكتابه لا خطبة ولا مقدمة ولا خاتمة وقد يقال أنه مات قبل أن يخرج كتابه لكن أين كان الأمر كان كتابه فريد في عصره وكما قلت ما حصل له دليل من أدلة قهر الرجال .
على أنه ينبغي أن يعلم كذلك كما قلت في الأول أن ميدان التنافس الدنيوي الذي يدفع الإنسان بتصرفات لا يحب أن يعامل بها كأن يريد أن يصل قبل أن يكتب له الوصول وأعلم أُخيّ أن كنت طالب علم أو عالم أو مربي أن ما كتبه الله لك لن يمنعك منه أحد وما لم يكتبه الله جل وعلا لك لن يصل إليك أبداً ولو اجتمع أهل الأرض على أن يوصلوه إليك .
فالحق الذي لا فريه فيه أن التأدب مع الأئمة الأعلام والأكابر الماضين إذا ألفت كتيباً فمن قرأ مقدمة الشيخ المختار الوالد رحمة الله في شرح سنن النسائي الصغرى وكيف ذكر أنه دفعه إلى التأليف أن الناس لم يحتفوا بسنن النسائي وإلا فهو يرى نفسه على علمه وفضله أقل من أن يكتب أو يؤلف مؤلفاً وذكر أبيات جميلة في هذا تنسب إلى أحد المالكية :
متى تصل العطاش إلى ارتواء ××× إذا استقت البحار من الركايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد ××× إذا جلس الأكـــــابر في الزوايا
وإنّ ترفع الوضعاء يــــــــوماً ××× على الرفعاء من أقسى البلايا
إذا استوت الأسافل والأعالي ××× فــقد طابت منادمـــــــة المنايا
هذا على وجه الإجمال ثاني العظات والوقفات مع قهر الرجال .
وفي الأسبوع القادم بإذن الله سنقف مع العظة الثالثة (( الصديقة مريم )) .
علمنا الله وإياكم ما ينفعنا ونفعنا بما علمنا ، وجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه الكريم ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .