العظة الثالثة : " الصديقة مريم "
ذكر الله جل وعلا في كتابه أسماء خمسة وعشرين نبياً ورسولا, ثمانية عشر في سورة واحدة هي سورة الأنعام وسبعة متفرقون .
وذكر من الرجال غير أنبيائه ورسله بأسمائهم الصريحة مثل :
تُبع وذي القرنين ولقمان وزيد رضي الله تعالى عنه , وهؤلاء ليسو بأنبياء ولا رسل على الصحيح أو الأظهر .
ولم يذكر جل وعلا في القرآن اسم امرأة إلا امرأة واحدة هي : مريم ابنة عمران عليه السلام.
ذكرها في مواضع متفرقة :
ذكرها باسمها الصريح : ) وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ) .
وذكرها بالنعت الجميل : ) وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ (.
وذكرها بالاصطفاء : ) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ) .
فما الذي نالت به مريم عليها السلام بعد فضل الله هذه المنزلة , وهذه العظة قد تكون للنساء أقرب منها للرجال , نالت الصديقة مريم هذه المنزلة لسببين كلاهما مندرج تحت رحمة الله :
السبب الأول : إيمانها وعبادتها .
السبب الثاني : عفتها وحياؤها .
قال الله جل وعلا) : وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) . الله جل وعلا أنشئها أصلاً في ذرية قوم صالحين , وعقلاً ونقلاً البيئة الصالحة تنشئ نبتاً صالحاً .
فليس النبتُ ينبت في جنان * كمثل النبت ينبت في فلاة
وهل يرجئ لأطفـال كـمــال* إذا رضعوا ثُدِّيَّ الناقصات
حنة امرأة عمران نشئت في بيت صالح من سلالة داود عليه السلام وكانت لا تحمل , فجلست ذات يوم تحت شجرة فجاء طائر فأطعم صغيرة فحنت للولد ونذرت أن رزقها الله ولداً أن تجعله خادماً للرب في بيت المقدس .
فحملت بإذن الله وبقيت على نذرها ونسيت أنه من الاحتمال أن يكون أنثى ( فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى ) أي ما يصلح للذكر قد لا يصلح للأنثى , وما تقوم به الأنثى مختلف عن الأعباء التي حمَّلها الله للرجال , ولكنها مع ذلك أسمتها مريم أي عابدة الرب .
ومن اللحظة التي ولدت فيها مريم عليها السلام أرادت أن يعتني بها ربها قالت:
( وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) هذا دعاء فكان الرد الإلهي : ( فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ). كان نبي ذلك العصر , كفلها زكريا عليه السلام بعد إجراء القرعة.
ونشأت عليها الصلاة والسلام وقد اتخذت موطناً في المسجد يعرف بالمحراب , تعبد ربها وتقنت وتركع وتسجد , وليس لها هم إلا طاعة الواحد الأحد , فلما تهيأت بالعطاء الرباني بما أظهرته لله جل وعلا من تقوى وصلاح .
وكانت مع تقواها وصلاحها محافظة على عفتها وحياؤها , ولا تملك امرأة شيئاً أعز من إيمانها وعفتها وحياؤها أبداً .
فخرجت ذات يوم لتطرد عنها الملالة شرقي بيت المقدس ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ) فخرجت شرقي بيت المقدس فإذا بجبرائيل عليه السلام بصورة شاب تام الهيئة , جميل المنظر بهي الطلعة , فتذكرت حيائها أن لا تغرى بهذا المنظر فذكرته بالله .
والإنسان يخاطب الناس بماذا؟
يخاطبهم بخلفيته الثقافية لأنها تخاف من الله ذكرته بالله ولأنها تعرف معنى التقوى ذكرته بالتقوى : ( قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا ) أي إن كنت تقياً فاتركني في حالي .
فلما نجحت في الابتلاء ولم تتنازل عن حيائها وعفتها قال لها الملك :
( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا ) فتعجبت : ( قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ) .
وقد يقول قائل : كان المفروض عندما بشرها بالولد أن تعرف أنها ستتزوج لأنه لا ولد إلا من زوج , لكن الذي دعاها أن تفكر في أنه لن يكون من زوج أن الملائكة قالت لها من قبل :
( إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ( فنسبوه إليها ولم ينسبوه إلى أب فعلمت أنها لن تتزوج : ( قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ) فأخبرها أن أرادة الله لا يمنعها شيء أبداً: ( قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ( .
ولو أن الناس فقهوا هذه الآية فقط لما يأس أحد وهو يرفع دعاءه إلى الله جل وعلا , إن الله إذا أراد أن يرحمك لن يمسك رحمته أحد , وإذا أراد الله جل وعلا أن يمسك عنك رحمته عياذاً بالله لن يرسل تلك الرحمة أحد ( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا ( .
وغاية الأمر أن جبرائيل عليه السلام نفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى رحمها فحملت بعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام .
معشر المؤمنات على وجه الخصوص وأيها المؤمنون على وجه العموم في عصرنا هذا :
عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سبحان الله ماذا أنزل الله الليلة من الفتن ) .
فكأنه عليه الصلاة والسلام ربط الفتن بالسماء , وعصرنا هذا ذاعت فيه القنوات الفضائية وشاعت , وهي في أكثر ما تمليه وغالب ما تعطيه تصرف شباب الأمة وفتياتها عن طاعة الله جل وعلا , في تحدي لا يسع أحد يدعوا إلى الله جل وعلا أن يسكت عنه .
وإن مسؤولية تلك القنوات يقع على الأمة بأسرها , يقع على سائر الحكام والسلاطين من غير استثناء , يقع على العلماء والدعاة , ويقع على أهل الثراء , ويقع على العامة .
أما وقوعه على السلاطين والحكام : فإنه ينبغي أن يكون هناك قراراً سياسياً على مستوى الأمة يمنع ما تمليه تلك الفضائيات .
وأما على مستوى العلماء : فإنه ينبغي على العلماء أن يبينوا ليلاً ونهاراً خطر ما تبثه تلك القنوات من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين .
وأما على مستوى أهل الثراء : فأن كثيراً من تلك القنوات إنما يقوم على الزخم المادي الذي يعود إليهم من خلال الإعلانات .
وأما ما يقع على العامة : فأن المسؤولية يوم القيامة مسؤولية فردية , والله جل وعلا سيسأل كل أحد عن تقصيره وفعله وسمعه وبصره وفؤاده .
حتى كتب قبل أيام في أحد الصحف أن أحدى القنوات عياذاً بالله في يوم الحج الأكبر في يوم العيد عرضت فيلماً يصور مشهد اغتصاب لممثلة قد أفضت إلى ربها فالقائمون على تلك القنوات والمنتجون لتلك الأفلام لم تسلم منهم امرأة ميتة ولا امرأة تائبة ولا امرأة معتزلة لكبر سنها . فما أن ينطق أحداً بالعوراء ويجهر بالفحشاء إلا ويتلقفونه في تسابق مذموم يريدون أن يصرفوا همم شباب الأمة وشاباتها عن صراط الله المستقيم .
وإيضاح هذا الأمر للناس أمر قرآني بحت قال الله جل وعلا : ( وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ) .
لكني أقول وقد قلت في الأول إن الخطاب لنخبة من المجتمع أن علينا أن نعرف كيف ننقذ بناتنا وأبنائنا من شر تلك الفتنة :
إن الغريق يحتاج إلى طرف الحبل , ومن الحماقة أن يرخى للغريق بالحبل كله , لأنك إذا رميت للغريق بالحبل كله صار طرفاه بيده فيبقى غريقاً كما هو , لكن شيء بيده وشيء بيدك .
فيكون التعامل مع الشباب والشابات من غير أن نقطع الطريق معهم , ولا نطلب منهم أن يكونوا حالاً واحدة نقبلها أو حالة أخرى نرفضها وإنما لا نيأس ونبقي على خطوط الاتصال الدعوي معهم ونبعدهم عن الرذيلة شيئاً فشيئاً .
نعنى بالإيمانيات أكثر من الفقهيات , نضع بدائل حتى ننتشلهم من أوحال الرذيلة , تطالب الدولة وفقها الله وأهل الثراء من أهل القطاع الخاص بتوفير فرص عمل لهم حتى يكون وقت الفراغ لهم بالنسبة إليهم قليلاً , كل ما يمكن صنيعه لهم أمر نتحمل جميعاً مسؤوليته حتى نبقي على عفاف بناتنا وعلى حياء أبناءنا , فإذا بقي لبناتنا حيائهن وعفافهن ولأبنائنا تمسكهم بدين الله جل وعلا حفظت الأمة في أعز ما تملك وهم شبابها وشاباتها الذي تؤمل منهم الأمة أعظم مما يدخره أولئك الفجرة لهم .
وفي الأسبوع القادم بإذن الله سنقف مع العظة الرابعة (( أعظم الغبن )) .
علمنا الله وإياكم ما ينفعنا ونفعنا بما علمنا ، وجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه الكريم ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .