ليس هناك من شك في أن الرأسمالية تواجه اليوم مأزقا أخلاقيا كبيرا، ذلك أن قادة الفكر الاقتصادي الذين يمسكون بمقاليد الأمور في الاقتصاد العالمي والذين كانوا دائما ما ينصحون بإتباع وصفات متشددة تنبع من تعاليم الأصولية الرأسمالية في أية كبيرة أو صغيرة ... هؤلاء القادة هم أنفسهم الذين كانوا أول من يتخلى عن هذه الأفكار، بل ويطبق عكسها حينما عصفت الأزمة المالية العالمية باقتصادات بلادهم!!
والمتأمل في تاريخ الفكر الاقتصادي، يعرف أن هذه ليست هي المرة الأولى التي يقوم أتباع الرأسمالية باتخاذ هذا النهج عند معالجتهم للمشكلات التي يواجهونها !! فحينما حدث الكساد الكبير في الثلاثينات من القرن الماضي وعصف باقتصادات اعتى الدول الرأسمالية في ذلك الوقت، كان الحل الذي نادى به الاقتصادي البريطاني الشهير جون مينارد كينز هو قيام الدولة بالتدخل في النشاط الاقتصادي لإعادة الأمور إلى نصابها!!
ففي كتابه " النظرية العامة في التشغيل والفائدة والنقود " الذي ظهر إلى الوجود في عام 1936 أوضح كينز أن الكارثة التي تواجه الولايات المتحدة والعالم الغربي في الواقع ليست إلا نتيجة لنقص الاستثمار الذي تقوم به المشروعات الخاصة. ولذا فقد اقترح علاجا منطقيا للغاية – من وجهة نظره – يتمثل في ضرورة قيام الحكومة بسد هذا النقص الذي ليس بقدرة المشروعات الخاصة القيام به!!
على أن هذه الفكرة لم يستسغها اقتصادي آخر، هو جوزيف شومبيتر. ولعل هذا الاقتصادي يعرفه دارسو علم الاقتصاد بكتابه الموسوعي عن " تاريخ التحليل الاقتصادي "، والذي جاء في 1200 صفحة تقريبا. على أن هذا الرجل له كتابا آخر أكثر أهمية، بعنوان " الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية "، ظهرت أولى طبعاته في عام 1942. وربما كان السبب وراء ظهور هذا الكتاب هو عدم قناعة شومبيتر بالحل الذي قدمه كينز من وجهة النظر الأخلاقية!! فقد أدان شومبيتر كتاب كينز بعبارات قاطعة، وكان بين أخطاء كينز وعيوبه الأكثر خطورة من وجهة نظر شومبيتر هو إصرار كينز على الجمع بين النظرية الاقتصادية والسياسة العملية!!
وفي نحو 120 صفحة تقريبا، يحاول شومبيتر الإجابة عن السؤال الذي عنون به الفصل الثاني من كتاب الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية، وهو " هل تستطيع الرأسمالية البقاء"؟ ويستهل إجابته بالقول: " لا، لا اعتقد أن بإمكانها ذلك "! وقد تصدم هذه الإجابة القارئ، إلا أنها قد تكون وسيلة جذابة لإثارة انتباهه!! وقد كان غرضه هو تجريد الرأسمالية لإظهارها بدون رتوش، فيستطيع بذلك شرح كيفية عملها وبيان أوجه مزاياها، حتى يستطيع بعد ذلك أن يفند عيوبها ويظهر عوارها!!
لم يكن شومبيتر مثل كارل ماركس ثائرا على الرأسمالية، يتمنى زوالها. بل على العكس من ذلك كان يحب الرأسمالية، ويتمنى معرفة أسباب ضعفها حتى يُجنبها مصيرها المحتوم من الانهيار لكي تحل محلها الاشتراكية. لذا فقد كان سائدا لديه أنه إذا كانت الابتكارات هي " الحافز الرئيسي الذي يدفع عجلة الرأسمالية للدوران "، فإن النهاية قد تأتي من استنفاذ الابتكارات الممكنة. وهكذا فإذا كان من المفترض وصول التحسينات التي يمكن إدخالها على طرق الإنتاج إلى حدودها القصوى، ففي هذه الحالة " لن يكون أمام المنظمين أي شيء لعمله! وهكذا فيكون من المتوقع أن تتقارب الأرباح ومعدلات الفائدة، بل وتصل تدريجيا إلى الصفر ... وبذلك فسوف تتلاشى الطبقة البورجوازية التي تعيش على الأرباح والفائدة "!!
والنهاية التي يصل إليها شومبيتر، هي أن الرأسمالية سوف تتلاشى وتزول، وأن سبب ذلك يكمن في قوة الرأسمالية نفسها كنظام إنتاجي، يصل بعد فترة إلى غايته في العملية الإنتاجية، بحيث لا يكون هناك أي دوافع للمنتجين والمنظمين بإنتاج المزيد. وهكذا فكما كانت المقدمة مختلفة بين شومبيتر وماركس، فإن النهاية كذلك مختلفة بينهما! ففي حين يرى الأول أن انهيار الرأسمالية يكون بسبب قوتها، نجد أن الثاني يرى أن هذا الانهيار يكون بسبب ضعفها وفشلها!!
ويمكن تحديد أهم أفكار شومبيتر في كتاب الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية في النقاط الثلاثة التالية:
أولا: جوهر الرأسمالية هو الابتكار ( أو " التدمير الخلاق " على حد قول شومبيتر ) في قطاعات معينة. وعلى ذلك فإن استخدام بعض أدوات بعينها في التحليل الاقتصادي، مثل تحليل التوازن الساكن والتحليل الكلي، من شأنه أن يخفي الحقيقة، بل ويقود لتضليل أساتذة الاقتصاد والطلبة الدارسين له على السواء.
ثانيا: في حين أن ثمار الرأسمالية – مثل ثبات اطراد معدلات النمو الاقتصادي – يصعب رؤيتها مباشرة، حيث لا يظهر أثرها إلا في الأجل الطويل. إلا أن عيوبها، مثل عدم المساواة أو غلبة الاحتكارات على النشاط الاقتصادي، تكون قصيرة الأجل وواضحة للعيان.
ثالثا: من الخطر للغاية بالنسبة للاقتصاديين أن يقدموا وصفات " عامة ". وذلك نظرا لتمتع الظروف السياسية والاجتماعية المحيطة بالتغير المستمر.
وهكذا لم يقتنع شومبيتر بتفسير ماركس لانهيار الرأسمالية من خلال نظرية الاستغلال، والتي مفادها أن أرباب الأعمال يعملون على وجود مخزون من العمالة بحيث يؤدي هذا المخزون إلى الحفاظ على مستوى الدخول منخفضا عند حد الكفاف. بل ويعتقد شومبيتر أن هذا التفسير قد دحضته التجربة العملية.
وفي الطبعات اللاحقة من الكتاب، ظهر ملحق يحمل عنوان " الطريق إلى الاشتراكية ". وهو جزء صغير لم تتجاوز صفحاته الإحدى عشرة صفحة. وهو عبارة عن خطاب ألقاه شومبيتر أمام الجمعية الاقتصادية الأمريكية في نيويورك في 30 ديسمبر عام 1949، أي بعد ظهور الكتاب بسبعة أعوام. وفي هذا البحث يتحدث شومبيتر بصراحة عن التداعيات الاجتماعية للرأسمالية، فيقول: " لا تعني الرأسمالية مجرد احتمال قيام إحدى ربات البيوت بالتأثير في عملية الإنتاج من خلال الاختيار بين شراء البسلة أو اللوبيا، أو احتمال اختيار أحد الشباب فيما بين ما إذا كان يريد العمل في أحد المصانع أو إحدى المزارع، أو أن مديري المشروعات لديهم بعض القدرة على اتخاذ القرارات بشأن ماذا سينتجونه وكيف – بل تعني وجود نظام من القيم، أو السلوك تجاه الحياة، أو حضارة: حضارة عدم المساواة وزيادة حظوظ بعض الأسر ... ولكنها حضارة سرعان ما تزول وتنتهي "!!
لا غرابة إذن أن نعرف لماذا وجدت كتابات كينز طريقها إلى الشهرة الواسعة، في حين أن آراء شومبيتر لم تلق مثل هذا النجاح، على الرغم من أن آراء الأخير لم ينقصها الحجة والقوة! ولعل السبب الرئيسي وراء ذلك أن آراء شومبيتر كانت ترى ضرورة وجود نزعة أخلاقية تحكم إطار عمل الرأسمالية، وأنه إذا سقط الإطار النظري لهذه النظرية فلابد أن تختفي تلك النظرية بأسرها من التطبيق، وهي الأمور التي لم يحفل بها كينز على الإطلاق! فلم يكن يهم كينز كثيرا الإطار النظري الذي تقوم عليه الرأسمالية، بقدر ما كان يهمه استمرارها وبقائها!!
وهكذا يمكن القول إن الأزمة المالية الحالية التي عصفت بأسواق الدول الرأسمالية تقوّض مرة أخرى الأساس النظري الذي تقوم عليه الرأسمالية! فإذا كان أساس الرأسمالية هو إطلاق " اليد الخفية " لكي تقوم الأسواق بعملها، فإن قيام حكومات الدول المتضررة من الأزمة المالية الحالية بالتدخل في اقتصادها على نحو ما حدث قد كشف عوار هذه الأسس وعدم صلاحيتها أو قابليتها للتطبيق.
ولكن كل هذا لا يعني فناء الرأسمالية أو زوالها!! وتلك هي المفارقة الكبرى في الأمر. فإذا كانت الرأسمالية نظريا قد تقوّضت أركانها، فليس معنى هذا زوالها من " التطبيق الفعلي ". وهذا ما يعني أن يظل نوع ما من " الرأسمالية المكيافيلية "– إذا جاز لنا إطلاق هذا الاسم عليها – على أرض الواقع! فالغاية – التي هي ضرورة بقاء الرأسمالية واستمرارها – تبرر الوسيلة – التي هي تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي. وهذا دائما ما يفسر استمرار بقاء الرأسمالية على أرض الواقع، على الرغم من تهاوي الإطار النظري الذي يحكم وجودها!! وهو ما رفضه شومبيتر وقلة من كبار الاقتصاديين من قبل. فما الذي سيسفر عنه الأمر في الأزمة الحالية ؟!!