-- كثير من عشاق شعر مجنون ليلى يتذكر بيتيه المشهورين
أوميضُ برق في الأبيرق لاحَ *** أم في ربا نجد أرى مصباحا
أم تلك ليلى العامرية أسفـرت *** ليلاً فصيّرَتِ المساء صباحا
وكنت ، وما أزال أترنم بهما متلذذاً ببُحّة الحاء وامتدادها ، وممتعاً ناظرَيّ بلمعان البرق خلف جبال نجد وتلالها على الرغم أنني- وإن قطعتها مجيئة وذهاباً كل سنة على امتداد خمسة عشر عاماً قضيتها في الإمارات إلى الأردنّ ومنها- لم اقض في الرياض النجدية سوى أيام . لكن شعوري النفسي أنني في أرض الشعر والشعراء جعلني أهواها وآنسُها وأرتاح إليها ... وأتصور أنني أرى المصابيح الخافتة تطل عليّ في ليل الروابي التي تحوطني وأنا أقود سيارتي مسرعة إلى الهدف المنشود .. الشارقة حيث أقيم ، أو عمان حيث أقضي فيها الصيف مع الأهل والأحباب... وما كنت استطيع النفوذ إلى عالم الشاعر الهيمان أو تصديق مشاعره لأنني لم أكن أعرف – وإلى الآن فأنا لا أومن بشيء يُدعى الاستغراق في الحب – أن الغرام يصل بصاحبه إلى دمج صور الطبيعة الخلابة في المحبوبة فإذا هما شيء واحد – وإن كنت شاعراً أطرب للجمال وتختلج جُزيئات كياني انتعاشاً به - . فشاعرنا لم يستطع التفريق بين لمعان البرق في الليل البهيم فيحيل الظلام ضياء – كأكبر فلاش ضوئي في العالم – وبين وجه ليلى الذي أسفر فأشرقت له الروابي والآكام ! ...
ما قلته دفعني إليه ما تذكرتُه ِمن فعل الشاعر بكري رجب البابي الحلبي رحمه الله تعالى - وكان شاعراً مبدعاً رقيق الحاشية عذب التعابير لطيف المعشر – مع الشيخ العالم عبد الله سراج الدين بن الشيخ نجيب رحمهما الله تعالى حين دخل على الشيخ في غرفة إدارة الثانوية الشعبانية التي أسسها أبوه في حي " الفرافرة " في حلب القديمة لتخريج الدعاة إلى الله تعالى ثم عكف الشيخ عبد الله على تطويرها .. وكان الشاعر بكري رجب البابي الحلبي يعمل فيها مدرساً للغة العربية وبعض المواد الشرعية الأخرى .. دخل عليه مساء فقال له : " صبحك الله بالخير " فالتفت إبه الشيخ عبد الله سراج الدين وحدجه بنظرة فيها استغراب وعتاب واستفهام . أما الاستغراب فلأنه قالها في المساء ، وهي عادة تقال في بلاد الشام صباحاً .. أما في الجزائر حيث درّست سنتين في بلاد القبائل الصغرى –بجاية – فيقولون مساء " صبحك الله بالخير" ، ويقولون صباحاً " مسّاك الله بالخير" وأعتقد أنهم على صواب ، ففي المساء يكون الواحد منا قد أمسى على خير، ويراه صاحبه فيدعو متمنياً له دوام السلامة " صبحك الله بالخير " . وهكذا يفعل في الصباح حين يراه فيرجو له الخير إلى المساء . وأما العتاب فلأن الشاعر دائم " النهفات " وينأى عن الجد في كثير من مواقفه ، وطبيعته المرحة تدفعه إلى ذلك . وأما الاستفهام فلأن الشاعر ما ألقى تلك الجملة إلا ليردفها بتفسير وتعليل .. هكذا عوّد الأحباب ، والشيخ منهم .. وقال الشيخ بهدوء المتمكن : يا شيخ بكري رجب البابي الحلبي- ناداه باسمه كاملاً - أتسخر منا أم تريد مزاحا ؟
وقف الشاعر أمامه مبتسماً متحبباً وعيناه تغزلان ذكاءً ثم قال :
صبّحته عند المساء فقال لي : *** تهزا بقدري أم تروم مزاحا ؟
فأجبته : إشراق وجهك غرّني *** حتى توهّمْت المساء صباحا
-- ولنقفز قفزة طويلة – ولا يقدر عليها إلا الرياضيون - من حلب إلى أمريكا الجنوبية وإلى محل بيع الأحذية في" بوينس آيرس " للشاعر اللبناني " نعمت قازان " افتتحه في ذلك الوقت قاصداً تسعة أعشار الرزق .. ويدخل عليه صاحبه الشاعر " توفيق غضون " مهنئاً ومباركاً ، فيتلقاه " نعمت " بوجه بشوش ويقدم له الشراب ، ويشكره على زيارته إياه . لكن " توفيقاً " لا يكتفي بالشراب ضيافة ، ويصر على أن ينال حذاءً هدية ، وأعلن أنه لن يغادر المحل إلا بهذه الهدية التي طلبها ... ويبتسم " نعمت " ويرضخ للأمر ، فيختار " توفيق " هديته ويحملها ، وقبل المغادرة يقدم له صاحب المحل ورقة مطوية وهو يودعه ... يفتحها " توفيق قبل الخروج ، فيقرأ فيها بيتين يقول فيهما :
لقـد أهـديت توفيقـاً حـذاءً *** فقال الحاسدون : وما عليه؟
أما قال الفتى العربي يوماً *** شبيـه الشيء منجذب إليه ؟
لم ينبس " توفيق" ببنت شفة ، لكنه أخرج ورقة من جيبه وكتب عليها :
لو كان يُهدى إلى الإنسان قيمتُه *** لكنت أستأهل الدنيا وما فيها
لكـن تقبلت هـذا النعـل معتـقـداً *** أن الهدايا على مقدار مهديها
وكان هناك ابتسامتان تنمان عن صداقة وأريحية ، ومضى توفيق بهديته شاكراً .
-- لطيف أنْ يجتمع الأصحاب في رحلة أنس خارج المدينة ، على شاطئ البحر أو النهر ، أو في بستان تحت ظلال الأشجار يقضون نهاراً ممتعاً بين نكتة أدبية وفكرة اجتماعية ، ومسابقة شعرية ، ورياضة وسباحة و... لحم مشوي ، ولا ننس المقولة النبوية الكريمة : " وعليّ جمع الحطب " إلا إذا كان أحدهم فقيراً لا يستطيع مجاراتهم في المصروف فهذا له وضع آخر نذكره بعد قليل .. والأصل أن يشترك الجميع في الخدمة والمصروف إلا إذا كان أحدهم أو بعضهم مدعوين . لكنني قرأت أن بخيلاً سمجاً حين أراد أن يشارك صديقه في كلفة الرحلة قال مقسماً العمل على الطريقة التالية :
منك الطعام ، ومني النار أوقدها *** والماء مني ومنك السمن والعسل
فقلت : تلك والله إذاً قسمة ضيزى .
فإذا كان مدعواً ضيفاً كريماً أو كان لطيف المعشر يودّه الجميع ويريدون رفقته وكان هو فقيراً لا يقدر على مجاراتهم فتحمّلوا نفقته على أن يقريهم من شعره وأدبه فشيء ظريف وتصرف رفيق وهذا ما حصل مع صاحبنا حين اقترحوا عليه أن يختار نوع الطعام الذي يفضله في الرحلة ، فماذا كان جوابه؟ ما الذي طلبه منهم وهو أحوج ما يكون إلى ثياب تستره ؟
قال لهم بلسان الحال ، فلما لم ينتبهوا أخبرهم بلسان المقال :
قالوا اقترح شيئاً نُجِدْ لك طبخَه *** قلت اطبخوا لي جُبّة وقميصاً