بسم الله الرحمن الرحيم
في داء النفاق وأنواعه ج 1
أبن قيم الجوزية
رجل عرف الشيعة قبل أكثر من سبعمائة عام ، فتأمل
أما النفاق فالداء العضال الباطن وهو على نوعان أكبر وأصغر .
فالأكبر يوجب الخلود في النار في دركها الأسفل ؛ وهو أن يظهر للمسلمين إيمانه بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر ، وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله مكذب به ، لا يؤمن بأن الله تكلم بكلام أنزله على بشر جعله رسولا ً للناس، بهديهم بإذنه، وينذرهم بأسه، ويخوفهم عقابه
وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين ، وكشف أسرارهم في القرآن ، وجلّى لعباده أمورهم ليكونوا منها ومن أهاها على حذر ، وذكر طوائف العالم الثلاثة في أول سورة البقرة : المؤمنين ، والكفار ، والمنافقين ، فذكر في المؤمنين أربع آيات ، وفي الكفارآيتين ، وفي المنافقين ثلاث عشر آية ؛ لكثرتهم وعموم الأبتلاء بهم ، وشدة فتنتهم على الأسلام وأهله، فإن بلية الأسلام بهم شديدة جدا ً لأنهم منسوبون إليه والى نصرته وموالاته، وهم أعداؤه في الحقيقة ، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وإصلاح وهو غاية الجهل والإفساد .
فلله كم من معقل للأسلام قد هدموه ؟ وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه؟ وكم من علم له قد طمسوه؟ ! وكم من لواء مرفوع له قد وضعوه! وضربوه بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوها! ، وكم عمـّوا عيون موارده بآرائهم ليدفنوه ويقطعوها! ، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية ، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون، ( ألا إنهم المفسدون ولكن لا يشعرون) ( البقرة 12)
ويريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) ( الصف
اتفقوا على مفارقة الوحي ، فهم على ترك الأهتداء به مجمعون ( فتقطعوا أمرهم بينهم زُبرا كل ُحزب ٍبما لديهم فرحون )( المؤمنون53) ( يوحى بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا)( الأنعام 112)
ولأجل ذلك ( أتخذوا هذا القرآن مهجورا)( الفرقان 30)
درست معالم الإسلام لديهم فليسوا يعرفونها ، ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها، وأفلتت كواكبه النيرة من قلوبهم فليسوا يحبونها، وكسفت شمسهعند اجتماع ظلم آرائهم وأفكارهم فليسوا يبصرونها، لم يقبلوا هدى الله الذي أرسل به رسوله، ولم يرفعوا به رأسا ً، ولم يروا بالإعراض عنه الى آرائهم وأفكارهم بأسا ً،خلعوا نصوص الوحيعن سلطنة الحقيقة ، وعزلوها عن ولاية اليقين، وشنّوا عليها غارات التأويلات الباطلة ، فلا يزال يخرج عليها منهم كمين ٌبعد كمين ، نزلت عليهم نزول الضيفعلى أقوام لئام ، فقابلوها بغير ما ينبغي لها من القبول والإكرام وتلقوها من بعيد، ولكن بالدفعفي الصدور منهاوالإعجاز، وقالوا: ما لك عندنا من عبورـ وإن كان لا بد ـ فعلى سبيل الأجتياز، أعدوا لدفعها أصنافالعدد وضروب القوانين ، وقالواـ لما خلت بساحتهمـ ما لنا ولظواهر لفظية لا تفيدنا شيئا ً من اليقين، وعوامهم قالوا : حسبنا ما وجدنا عليه خلفنا المتأخرين ، فإنهم أعلم بها من السلف الماضين ، وأقوم بطرائق الحجج والبراهين، وأولئك غلبت عليهم السذاجةوسلامة الصدور، ولم يتفرغوا لتمهيد قواعد النظر، ولكن صرفوا هممهم الى فعل المأموروترك المحظور، فطريقة المتأخرينأعلم وأحكم؛ وطريقةالسلف الماضين أجهل ،
لكنها أسلم .
أنزلوا نصوص السنة والقرآن منزلة الخليفة في هذا الزمان، اسمه على السكة وفي الخطبة فوق المنابر مرفوع، والحكم النافذ لغيره، فحكمه غير مقبول ولا مسموع ، لبسوا ثياب أهل الإيمان على قلوب أهل أهل الزيغ والخسران والغل والكفران، فالظواهر ظواهر الأنصار، والبواطن قد تحيزت الى الكفار، فالسنتهم ألسنة المسالمين؛ وقلوبهم قلوب المحاربين، ويقولون: ( ءامنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)(البقرة
رأس مالهم الخديعة والمكر، وبضاعتهم الكذب والختر( الغدر) ، وعندهم العقل المعيشي أن الفريقين عنهم راضون، وهم بينهم آمنون ( يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) ( البقرة9)
قد نهكت أمراض الشبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها، وغلبت القصود السيئة على أراداتهم ونيـّاتهم فأفسدتها، ففسادهم قد ترامى الى الهلاك، فعجزعنه الأطباء العارفون ( في قلوبهم مرض ٌفزادهم الله ُمرضا ًولهم عذاب ٌأليم بما كانوا يكذبون) (البقرة10)
من علقت مخال شكوكهم بأديم إيمانه مزقته كل تمزيق، ومن تعلق شرر فتنتهم بقلبه ألقاه في عذاب الحريق ، ومن دخلت شبهات تلبيسهم في مسامعه حالت بين قلبه وبين التصديق، ففسادهم في الأرض كثير ،وأكثر الناس عنه غافلون (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * الا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)
( البقرة 11و12)
المتمسك عندهم بالكتاب والسنة صاحب ظواهر، مبخوس حظه من المعقول، والدائر مع النصوص عندهم كحمار يحمل أسفارا ً، فهمهفي حمل المنقول، وبضاعة تاجر الوحي لديهم كاسدة ، وما هو عندهم بمقبول، وأهل الأتباع عندهم سفهاء ، فهم في خلواتهم ومجالسهم بهم يتطيرون
( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما ءامن السفهاء ألا هم السفهاء ولكن لا يشعرون) ( البقرة 13)
لكل منه وجهان ؛ وجه يلقى به المؤمنين ، ووجه ينقلب به الى إخوانه من الملحدين، وله لسانان؛ أحدهما يقبله بظاهره المسلمون، والآخر يترجم به عن سره المكنون
( وإذا لقوا لذين ْامنوا قالوا آمنـّا وإذا خلوا الى شياطينهم قالوا إنـّا معكم إنما نحن مستهزءون )( البقرة 14)
قداعرضوا عن السنة والكتاب أستهزاء ًبأهلها واستحقارا ً، وأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحا ً بما عندهم من العلم الذي لا ينفع الإستكثار منه إلا أشرا ًواستكبارا ً، فتراهم أبدا ًبالمتمسكين بصريح الوحي يستهزئون
(الله يستهزيء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) ( البقرة 15)
خرجوا في طلب التجارة البائرة في بحار الظلمات ، فركبوا مراكب الشبه والشكوك تجري بهم في موج الخيالات ، فلعبت بسفنهم الريح العاصف، فألقتها بين سفن الهالكين
( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) (البقرة 16)
أضاءت لهم نار الإيمان فابصروا في ضوئها مواضع الهدى والضلال، ثم طفيء ذلك النور، وبقيت نارا ًتأجج ذات تلهب واشتعال، فهم بتلك النار معذبون ، وفي تلك الظلمات يعمهون
( مثلثهم كمثل الذي استوقد نارا ًفأضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) ( البقرة 17 )